اختص الله عزّ وجلّ المسجد الحرام بميزات عدة، ورفع مكانته، وأعلى شرفه، وطهره وجعله مهوى الأفئدة، وملتقى القلوب الطاهرة، تلتئم فيه وحدة المسلمين في صف واحد، يعبدون ربًا واحدًا لا يشركون به شيئًا، ويرفعون له أكفّ الضراعة وهو – سبحانه – يباهي بهم ملائكته؛ لأنهم أتوه شعثًا غبرًا يرجون رحمته ويخافون عذابه.
ولهذه المكانة تنوّعت عناية المسلمين بالمسجد الحرام على مر التاريخ، لتعدد مكوناته، وحاجتها الماسة إلى التوسعة والعناية والاهتمام والتطوير المستمر، وفقا لتقرير بثته وكالة الأنباء السعودية (واس) مساء اليوم .
وأشارت الوكالة السعودية إلى أن العناية بتوسعة المسجد الحرام كانت نابعة من تزايد أعداد المسلمين الراغبين في أداء الحج والعمرة، واستمرت التوسعات على مدار التاريخ الإسلامي حتى وقتنا الحاضر.
(المسجد الحرام.. بين حقبتين)
شهد المسجد الحرام منذ تكوّن المجتمع المكي قبل الإسلام وصولاً إلى العام 1343هـ؛ أي قبل ضم مكة المكرمة على يد الملك المؤسس عبدالعزيز – رحمه الله- توسعات مختلفة من قبل ولاة أمور المسلمين، وبحسب ما أورده مدير مركز تاريخ مكة المكرمة – سابقًا – الدكتور فواز الدهاس في كتابه (الحج عبر العصور)، فإنّ المساحة الإجمالية للمسجد الحرام في عصر ما قبل الإسلام والعصر النبوي وصولاً لعصر الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قدرت بـنحو (1490م2).
وتعاقبت توسعات بيت الله الحرام بعد ذلك وصولًا إلى آخر توسعتين تمتا – قبل عهد الدولة السعودية- في عهد الخليفة العباسي المعتضد بنحو 1250م2، وتوسعة أخرى في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله بنحو 850م2، ليكون إجمالي مساحة المسجد الحرام 27850م2.
ودخل المسجد الحرام مرحلة جديدة في حقبة الدولة السعودية، بدأت بدخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة في عام 1343ه/ 1924م؛ – بحسب ما جاء في كتاب (ماضي الحجاز وحاضره).
ويبدأ الملك عبد العزيز تأسيس عهد جديد من العناية والاهتمام ببيت الله الحرام، يأتي ترجمة لما قاله في خطبته المشهورة التي أوردها كتاب (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز): “…إني أبشركم. بحول الله وقوته. أن بلد الله الحرام في إقبال وخير وأمن وراحة، وإنني إن شاء الله تعالى سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة، ويجلب الراحة والاطمئنان لها”.
وبهذه الكلمات الخالدة دُشنت حقبة جديدة من العناية والاهتمام بالمسجد الحرام عنوانها “المملكة قيادة وشعبًا خدام لبيت الله المعظم”.
وبحسب ما جاء في كتاب (المسجد الحرام التاريخ والعمارة) للدكتور فواز الدهاس والدكتور محمد الشهري؛ فإن أعداد الحجاج تزايدت بعد دخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة، حيث قدرت بـ (90662) حاجًا في سنة 1345هـ، ثم ارتفعت بعد وفاته في سنة 1373هـ – إلى (232971) حاجًا في سنة 1374هـ.
وبدأت أولى التوسعات السعودية في العام 1375هـ، وتضمنت ثلاثة طوابق، وهي الأقبية، والطابق الأرضي، والطابق الأول، مع بناء المسعى بطابقيه وتوسعة المطاف، وأصبح بئر زمزم في القبو.
وفي عام 1398هـ وُسع المطاف بشكله الحالي، كما فُرشت أرضيته برخام مقاوم للحرارة جُلب من اليونان مما زاد من راحة المصلين والطائفين، وشملت توسعة المطاف نقل المنبر والمكبرية وتوسيع قبو زمزم، وجعل مدخله قريبًا من حافة المسجد القديم في جهة المسعى، وركبت صنابير لشرب الماء وجُعل للبئر حاجز زجاجي.
وبُلط في مستهل العام 1406هـ سطح التوسعة السعودية الأولى بالرخام البارد المقاوم للحرارة، وفي العام 1409هـ وضع حجر الأساس للبدء في التوسعة السعودية الثانية، كما أُحدثت في عام 1411هـ ساحات كبيرة محيطة بالمسجد الحرام، وهُيئت للصلاة، ولا سيما في أوقات الزحام، حيث بُلطت برخام بارد ومقاوم للحرارة وأُنيرت وفُرشت، وتبلغ المساحة الإجمالية لهذه الساحات (88,000م2).
وشهد عام 1415هـ توسعة منطقة الصفا في الطابق الأول تسهيلًا للساعين، وذلك بتضييق دائرة فتحة الصفا الواقعة تحت قبة الصفا، وفي عام 1418هـ أُنشئ جسر الراقوبة الذي يربط سطح المسجد الحرام بمنطقة الراقوبة من جهة المروة، لتسهيل الدخول والخروج إلى سطح المسجد الحرام.
وفي مطلع العام 1432هـ دُشنت أكبر توسعة في تاريخ المسجد الحرام، حيث رُفعت الطاقة الاستيعابية للحرم إلى مليون و850 ألف مصل. وبدأت مراحل العمل على مضاعفة الطاقة الاستيعابية بصحن الطواف إلى 3 أضعاف طاقته السابقة ليتمكن 150 ألف شخص من الطواف كل ساعة، إضافة إلى أنظمة الصوت والإضاءة والتكييف ومنظومة طواف المشاة.
واستكمالًا لنهج ملوك السعودية؛ دشن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في العام 1436هـ، خمسة مشاريع رئيسة هي: مشروع مبنى التوسعة الرئيس، ومشروع الساحات، ومشروع أنفاق المشاة، ومشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائري الأول.
وساهمت هذه الانشاءات والتوسعات في تزايد أعداد حجاج بيت الحرام عامًا بعد عام وسط منظومة متكاملة من الخدمات والتسهيلات التي تسهم في أداء نسكهم بأمن وأمان وسكينة واطمئنان.
وبحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء في المملكة، فقد بلغ إجمالي عدد الحجاج منذ بدأت الهيئة عملية الإحصاء في العام 1390هـ تحت مسمى “مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات”، حتى العام الماضي 1444هـ، أكثر من (100 مليون حاج).
ووفقا لتقرير (واس) فإن خدمة بيت الله الحرام والعناية به وخدمة قاصديه منهج راسخ لدى ولاة الأمر في المملكة ولذلك سخّروا السبل كافة لوصول ضيوف الرحمن للمسجد الحرام بكل أمن وأمان، وتحقيقًا لذلك وفرت منظومة النقل والخدمات اللوجستية وسائل نقل متعددة جوًا وبرًا وبحرًا، فتوسعت في إنشاء المطارات والموانئ، ووفرت القطارات، وعبّدت الطرق، وأولت كلًا منها اهتمامًا كبيرًا لضمان سلامة حجاج بيت الله الحرام، من خلال تسخير كل الإمكانات التقنية والبشرية لتحقيق هدف رحلة آمنة وسهلة لضيوف الرحمن.
ورغم مساحة المملكة الشاسعة والمترامية الأطراف التي تربطها بـ (8) دول؛ إلا أن “منظومة النقل” وفرت (10) طرق رئيسة بتصاميم حديثة تتيح لحجاج كل من (دولة الكويت، دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة قطر، مملكة البحرين، المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية العراق، الجمهورية اليمنية، سلطنة عُمان)؛ الوصول إلى مكة والمكرمة.
وتم كذلك تجهيز عدد من الطرق ذات المستوى العالي من السلامة والصيانة، مثل (طريق الرياض – الطائف – مكة المكرمة) بإجمالي أطوال بلغت 820 كم، و(طريق مكة المكرمة – المدينة المنورة) بطول 420 كم، و(طريق مكة المكرمة – جدة) بطول 70 كم، وطريق السيل الكبير بطول 70 كم، إضافة لعقبة الهدا بطول 60 كم.
واستكملت الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة الطرق الدائرية ومحاورها؛ لتسهيل الحركة المرورية، شملت هذه المشاريع الانتهاء من تنفيذ وتشغيل الطريق الدائري الأول، واستكمال الطريق الدائري الثاني، واستكمال الجزء الشمالي من الطريق الدائري الثالث بطول 7.2 كيلومترات.
وتسهم هذه الطرق في تسهيل حركة المرور لضيوف الرحمن والسكان، وتيسير الحركة المرورية للمركبات؛ مما يقلل مدة التنقل من وإلى المشاعر المقدسة بنسبة تصل إلى 70% ، كما تسهم في خفض الانبعاثات الكربونية، وتحسين المشهد الحضري ورفع كفاءة خدمات البنية التحتية للأحياء المجاورة للمشروع.
وتستقبل مطارات المملكة ممثلة في مطار الملك عبدالعزيز في جدة، ومطار الأمير محمد بن عبدالعزيز الدولي في المدينة المنورة، ومطار الطائف الدولي، ومطار الأمير عبدالمحسن الدولي في ينبع، ومطار الملك خالد الدولي بالرياض، ومطار الملك فهد الدولي بالدمام، التي تُعَد البوابة الرئيسة لدخول الحجاج، ضيوف بيت الله الحرام، كما يتم رصد أداء جودة الخدمات المقدمة، وتحسين تجربة الحاج من خلال بناء مؤشرات قياس أداء الخدمات؛ سعيًا لتقديم تجارب مميزة تسهم في رفع معايير الرضا، والتأكد من تطبيق معايير السلامة والجودة كافة من قبل مزودي الخدمة من مطارات وناقلات ومثيلاتها.
وكانت أول طائرة خاصة بنقل الحجاج قد وصلت إلى مدينة جدة قادمة من مصر في العام 1354ه/ 1936م، حسب ما ذكرته صحيفة أم القرى في عددها ذي الرقم (587).
ومن الخدمات اللوجستية التي تقدمها “منظومة النقل” لحجاج بيت الله الحرام، توفير عربات متطورة لنقل أمتعة الركاب من ميناء جدة الإسلامي، وحافلات حديثة لنقل الحجاج، إلى جانب مبادرة “غادر بلا أمتعة”، وغيرها من الخدمات التي تُسهِم في راحة ضيوف الرحمن.
ولتحسين تجربة الحاج في التنقل باستخدام قطار الحرمين السريع، وقطار المشاعر المقدسة؛ وُفرت أفضل الخدمات وسُخرت كافة الإمكانات المادية والبشرية، حيث تسهم قطارات الشركة السعودية للخطوط الحديدية “سار” في تعزيز التكامل والترابط مع أنماط منظومة النقل كافة، كما وُظفت التقنيات الحديثة لتسهيل نقل الحجاج، من خلال 19 تقنية جديدة للنقل الحديث لخدمة ضيوف الرحمن.