حين نسافر، لا نغادر الأرض فقط، بل نغادر اللغة شيئًا فشيئًا، ننسلّ من العادات كما يُخلع المعطف في المطارات، ونرتدي طبقات من الهويات المؤقتة، حتى يكاد المرء لا يتعرّف إلى نفسه في المرايا الجديدة.
الغربة في ظاهرها انتقال، وفي باطنها اختلال. اختلال في الميزان بين ما نريد أن نكونه، وما نُطالب أن نصير عليه كي نتكيف ونبقى.
تبدأ المسافة بينك وبين الوطن حين تبدأ تترجم اسمك مرتين: مرة للنادل، وأخرى لابنك. حين تتردد قبل أن تردّ على من يسألك: “من أين أنت؟”، لأن الجواب، وإن كان بسيطًا، صار معقدًا في قلبك.
ليس الوطن ذلك الكيان الرسمي الذي نحمله في جواز السفر، بل هو تلك التفاصيل الصغيرة التي تسكن اللاوعي: رائحة الشوارع بعد المطر، صوت البائع المتجول، لهجة الأم، الحنين إلى “البيت” الذي لم يعد بيتًا كما هو، لكنه لم يغادرنا أبدًا.
الغربة ليست طارئة، إنها ثقيلة، متعدّدة الطبقات.
تبدأ من اللسان، لكنها لا تقف عنده. تمتد إلى أنساق التفكير، إلى الذائقة، إلى نظرتك لنفسك في عيون الآخرين.
هي لا تسلبنا فقط القدرة على الانتماء الكامل، بل تزرع فينا قلقًا وجوديًا:
هل نحن من هناك… أم من هنا؟
هل نحن نكمل حكاية مصرية فُقدت فصولها؟
أم نبدأ حياة جديدة بلا ماضٍ يثقل الذاكرة؟
ثمّة صراع صامت يدور في قلب كل شاب مصري في الخارج، خاصة أبناء الجيل الثاني والثالث، الذين لا يحملون ذكريات المكان، بل يرثون الحنين إليه دون أن يعرفوا طعمه.
وهنا تبرز مسؤوليتنا الأخلاقية والثقافية تجاههم:
ألا نتركهم ضحايا لتشويش الهوية،
ألا نسلّمهم الغربة دون أن نسلّمهم معها مفاتيح الانتماء.
إن أكثر ما يهدد الهوية ليس الفقدان، بل “الطمس”، حين تختفي الملامح تدريجيًا تحت وطأة التكيف الزائد مع بيئات جديدة.
وكل تخلٍّ صغير — عن لغة، عن عادة، عن اسم، عن حكاية — هو في جوهره تنازل عن شظية من الوطن، ولو بدا بسيطًا.
في زمن العولمة والرقمنة والتشظي، لا يكفي أن نقول “أنا مصري”،
بل يجب أن نحمل ذلك كمسؤولية يومية، لا كشعار.
أن نكون نسخة أخلاقية من بلدنا في السلوك، في الاجتهاد، في احترامنا للآخر، في الطريقة التي نتصرف بها في الغياب.
الغربة ليست عارًا ولا نقصًا. لكنها امتحان طويل في الثبات على الجوهر وسط زحام التغيّر.
ونحن — أبناء هذه المسافة الرمادية بين الوطن والمغترب — لا نحتاج أن نختار بين أن نكون “مصريين فقط” أو “عالميين فقط”، بل أن نكون الجسر بين الاثنين، بشرط ألا ننسى في أي لحظة: من نحن، وإلى أين ننتمي، حتى وإن تغيّر العنوان البريدي.